مبدأ الفصل بين السلطات The principle of Separation of powers
تمهيد وتقسيم :
من المؤكد أن مبدأ الفصل بين السلطات قد غدا منذ الثورة الفرنسية أحد المبادىء الدستورية الأساسية التي تقوم عليها النظم الديمقراطية الغربية بوجه عام ، ويحتم هذا المبدأ أولاً قيام حكومة نيابية Representative Government ، لأنه لا يسود إلا في ظل النظام النيابي ، حيث تتضح فيه الضرورة إلى توزيع السلطات Distribution of Powers .
وينسب أصل هذا المبدأ إلى الفلسفة السياسية للقرن الثامن عشر ، حيث ظهر في ذلك الوقت كسلاح من أسلحة الكفاح ضد الحكومات المطلقة ـ التي كانت تعمد إلى تركيز جميع السلطات بين يديها ـ وكوسيلة أيضاً للتخلص من استبداد الملوك وسلطتهم المطلقة.
وتتلخص الفكرة الأساسية التي يقوم عليها مبدأ الفصل بين السلطات في ضرورة توزيع وظائف الحكم الرئيسية : التشريعية والتنفيذية والقضائية على هيئات منفصلة ومتساوية تستقل كل منها عن الأخرى في مباشرة وظيفتها حتى لا تتركز السلطة في يد واحدة فتسيء استعمالها, وتستبد بالمحكومين استبداداً ينتهي بالقضاء على حياة الأفراد وحقوقهم.
وإذا كانت تلك الفكرة هي جوهر مبدأ الفصل بين السلطات ، فإن هذا هذا المبدأ ليس معناه إقامة سياج مادي يفصل فصلاً تاماً بين سلطات الحكم ، ويحول دون مباشرة كل منها لوظيفتها بحجة المساس بالأخرى ، ومن ثم فإن مقتضى مبدأ الفصل بين السلطات أن يكون بين السلطات الثلاث تعاون ، وأن يكون لكل منها رقابة على الأخرى في نطاق اختصاصها بحيث يكون نظام الحكم قائماً على أساس أن " السلطة تَحُدّ أو توقف السلطة " Power should be a check to power ، وهو ما يعبر عنه بالفرنسية بـ " Le pouvoir arrête le pouvoir " ، فيؤدي ذلك إلى تحقيق حريات الأفراد ، وضمان حقوقهم ، واحترام القوانين ، وحسن تطبيقها تطبيقاً عادلاً وسليماً ، فهذا ما يتفق وحكمة الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات التي هي تحقيق التوازن والتعاون بين السلطات ، وتوفير الحيدة لكل منها في مجال اختصاصها .
ولا يذكر مبدأ الفصل بين السلطات إلا مقترناً باسم الفقيه والفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت البارون تشارلز لويس سيكوندات مونتيسكيو Montesquieu ، وذلك لما أبرزه من أهمية لهذا المبدأ ، وما حدده له من صياغة وأسلوب في التوضيح ، وذلك كله على النحو المبين في مؤلفه المشهور " روح القوانين " The Spirit of Laws/L'Esprit des Lois " الصادر سنة 1748 . وموضوع سلطات الدولة ووظائفها سبق أن تناوله العديد من الفلاسفة والفقهاء من قديم, وبخاصة أفلاطون وأرسطو ، كما أن موضوع الفصل بين هذه السلطات تلقى اهتماماً ظاهراً من الفقيه الإنجليزي جون لوك John Locke في أعقاب ثورة سنة 1688م ، وذلك في مؤلفه عن " الحكومة المدنية " Civil Government الصادر سنة 1690 .
لقد كان لأفكار " مونتيسكيو" حول فصل السلطات صدىً كبير ، وأثر بالغ ، حيث تداولها المفكرون ، ونادى بها الفقهاء ، إلا أن خلافاً قد نشأ بين فقهاء القانون العام حول حقيقة مفهوم هذا المبدأ ومدلوله الصحيح ، فالبعض فهمه على أنه يعني الفصل المطلق بين السلطات ، وأن هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق غاية المبدأ الأساسية في منع التعسف والاستبداد بالسلطة ، إلا أن الغالبية العظمى من الفقهاء ، قد فهمت المبدأ على نحوٍ آخر ، وهو أنه يعني الفصل المرن بين السلطات ، أي فصلاً مع التعاون بين السلطات ، ومع تبادل الرقابة فيما بينها .
ولكن ، وأياً ما كان الخلاف حول مفهوم مبدأ الفصل بين السلطات ومدلوله ، فمن الثابت أن المبدأ قد غدا منذ الثورة الفرنسية تياراً جارفاً ، ونشيداً عالمياً ، واعتبره الجميع أحد الأعمدة أو الأركان الرئيسة لقيام الحكم الديمقراطي.
ورغم المزايا العديدة التي يتسم بها مبدأ فصل السلطات ، والفوائد التي يحققها ، فإنه ـ شأنه شأن غيره من المبادىء السياسية والقانونية ـ لم يسلم من النقد ، فقد عاداه بعض الفلاسفة والفقهاء ، ووجهوا إليه الكثير من سهام النقد ، وإن كانت لم تحظَ كما سنرى ـ بتأييد الفقه لها ، وذلك لأن مردها كان نتيجة تفسيرهم الخاطىء للمبدأ ، وعدم فهمهم لمضمونه الحقيقي كما تصوره " مونتسكيو " ؛ وأمام هذه الحقيقة ، فإن أوجه النقد التي ساقها مناهضي هذا المبدأ ، تفقد كل قيمة لها ، في حين أن المبدأ يبقى قائماً بمعناه الصحيح ، ويعتبر أفضل حماية لحقوق وحريات الأفراد ، ووقاية لهم من عسف الحاكم وتسلطه .
وبناء عليه ، سنعالج هنا مبدأ الفصل بين السلطات من خلال تتبع نشأة هذا المبدأ وجذوره التاريخية ، ثم ننتقل بعد ذلك لبيان مدلوله الصحيح ، والمبررات التي قام على أساسها ، وأهم الانتقادات التي وجهت إليه والرد عليها ، وذلك من خلال الفروع الثلاثة التالية : الفرع الأول : نشأة مبدأ الفصل بين السلطات الفرع الثاني : مدلول مبدأ الفصل بين السلطات الفرع الثالث : مبررات مبدأ الفصل بين السلطات والانتقادات الموجهة إليه
الفرع الأول نشأة مبدأ الفصل بين السلطات تمهيد وتقسيم : ارتبط مبدأ الفصل بين السلطات باسم الفيلسوف السياسي الفرنسي " مونتيسكيو " الذي كان له الفضل في إبرازه كمبدأ أساسي لتنظيم العلاقة بين السلطات العامة في الدولة ، وكوسيلة لتفتيت السلطة ، ومنع تركيزها في يد واحد على نحوٍ يهدد حريات الأفراد ويعرض حقوقهم للخطر ؛ وإذا كان فضل مونتسكيو في ذلك لا ينكر ، إلا أن جذور المبدأ ترجع إلى زمن بعيد ، قبل القرن الثامن عشر بقرون عديدة ، فقد كان لأعلام الفكر السياسي الإغريقي أفلاطون وأرسطو دور مهم في وضع الأساس الذي قام عليه مبدأ الفصل بين السلطات .
كما كان " جون لوك " أول من أبرز أهمية هذا المبدأ في العصر الحديث ، في مؤلفه عن " الحكومة المدنية " الذي صدر سنة 1690 ، وكان ذلك بعد الثورة السياسية التي قام بها البرلمان الإنجليزي سنة 1688 ، والتي أدت إلى إعلان " وثيقة الحقوق " Bill of Rights سنة 1689 ؛ بيد أن مبدأ الفصل بين السلطات لم يأخذ الأهمية الكبيرة التي نالها ، ولم يتضح مضمونه ، وتتبلور معالمه وحدوده إلا بعد أن نشر " مونتسكيو " مؤلفه الشهير " روح القوانين " سنة 1748 ، حيث قام هذا الفيلسوف بدراسة آراء من سبقوه ، ثم صاغها صياغة جيدة ، وعرضها عرضاً واضحاً ودقيقاً ، ولذلك كان من حقه في الفكر السياسي أن ينسب إليه هذا المبدأ ، ويرتبط باسمه.
وبناء عليه ، سوف نتناول بالدراسة فيما يلي نشأة مبدأ الفصل بين السلطات, من خلال الحديث عن نشأة هذا المبدأ قبل ظهور نظرية مونتسكيو ( أولاً ) ، ثم نتكلم بعد ذلك ـ وبشيءٍ من التفصيل ـ عن نظرية " مونتسكيو " ذاتها في الفصل بين السلطات ( ثانياً ), وسيكون ذلك وفقاً لما يلي : أولاً ـ مبدأ الفصل بين السلطات قبل ظهور نظرية " مونتسكيو " :
إن الحديث عن نشأة مبدأ فصل السلطات في الفترة السابقة على ظهور مونتسكيو ونظريته في هذا الشأن ، يتطلب منا أن نتتبع جذور نشأة هذا المبدأ في كل من الفكر السياسي القديم ( الفلاسفة اليونانيين Greek philosophers وبخاصة أفلاطون وأرسطو ) ، والفكر السياسي الحديث ، وبالذات في القرن السابع عشر ( التجربة الديمقراطية الإنجليزية ) :
1 ) مبدأ الفصل بين السلطات في الفكر السياسي القديم :
أ ـ أفلاطون ومبدأ الفصل بين السلطات ( 427 ـ 347 ق . م ) :
رأى أفلاطون Plato ـ منذ العهد القديم ـ ضرورة فصل وظائف الدولة ، وفصل الهيئات التي تمارسها عن بعضها ، على أن تتعاون كلها على الوصول إلى الهدف الرئيسي للدولة ، وهو تحقيق النفع العام للشعب ، وفي سبيل عدم انحراف هيئات الحكم عن اختصاصاتها وأهدافها ، تتقرر لها في مواجهة بعضها وسائل للرقابة ، يراد بها منع الانحراف ، ووقف كل هيئة عند حدود اختصاصها المحدد لها .
وذهب أفلاطون في كتابة " القوانين " إلى توزيع وظائف الدولة وأعمالها المختلفة على عدة هيئات بحيث تمارس كل هيئة وظيفة معينة ، وبيّن هذه الهيئات على النحو التالي : ـ مجلس السيادة ، ويتكون من عشرة أعضاء ، وهذه المجلس هو الذي يهيمن على مختلف الشؤون العامة في الدولة . ـ جمعية تضم كبار الحكماء والمشرعين ، ومهمتها حماية الدستور من عبث الحكام ، و الإشراف على سلامة تطبيقه . ـ مجلس شيوخ منتخب من الشعب ، ومهمته القيام بالتشريع ، أي سن القوانين اللازمة للدولة . ـ هيئة قضائية تتكون من عدة محاكم على درجات مختلفة ، ومهمتها الفصل في المنازعات . ـ هيئة البوليس " الشرطة " للمحافظة على الأمن داخل الدولة ، وهيئة الجيش للدفاع عن سلامة البلاد من الاعتداءات الخارجية . وبهذه الطريقة تتولى كل هيئة الإشراف على عمل معين ، وتسأل عنه ، وتتعاون جميع الهيئات على تحقيق المصلحة العامة ، وبهذا الأسلوب في الحكم تستقر الأوضاع في الدولة ، ويمكن تفادي الاستبداد الذي قد ينجم إذا ما ركزت جميع الأعمال في يد واحدة .
ب ـ أرسطو ومبدأ الفصل بين السلطات ( 384 ـ 322 ق . م ) :
قرر الفيلسوف والمفكر العظيم أرسطو" Aristotle " في مؤلفه السياسة " Politics " أن السلطة لا تنبع إلا من الجماعة ، وبالتالي لا يجوز أن تسند إلى فرد أو أقلية من الشعب ، وإنما إلى الجماعة كلها ، وما دام القانون هو في الحقيقة تعبير عن إرادة هذه الجماعة ومظهراً لها ، فيجب أن يحكم تصرفات هذه الجماعة, وبذلك تكون السيادة في حقيقة الأمر لهذه الجماعة, أو بمعنى آخر للشعب.
إلا أن تعدد وظائف الدولة وتنوعها وتشعبها ، يستلزم تقسيم تلك الوظائف إلى عدة وظائف فرعية ، نظراً لان الجماعة ـ صاحبة السيادة الحقيقية في الدولة ـ لن تستطيع لن تقوم بها مجتمعة ، وفضلاً عن ذلك فإن اجتماع السلطات كلها في يد شخص واحد كفيل بإفساد نظام الحكم من أساسه ، وتحويل ذلك الشخص إلى سلطة استبدادية غير صالحة للاستمرار( )؛ ومن هنا كان لابد من تقسيم وظائف الدولة إلى ثلاث وظائف رئيسية هي :
1 ـ المداولة ( الفحص والتشاور ) Deliberation : وهذه الوظيفة أناطها أرسطو بسلطة أسماها السلطة التداولية The Deliberative Power ويتولاها " المجلس العام " Public Assembly ، ومهمته فحص المسائل والقضايا العامة Public affairs ومناقشتها . 2 ـ الأمر ( وظيفة الحكم وإصدار الأوامر ) Command : وهذه الوظيفة يتولاها الحكام Magistrates وكبار الموظفين ، ومهمتها تنفيذ القوانين . 3 ـ القضاء أو العدالة " Justice : وهذه الوظيفة تناط بالسلطة القضائية Judicial Power التي تتولاها المحاكم بكافة أنواعها ودرجاتها, وتكون مهمتها الفصل في الخصومات والجرائم . وإذا كانت وظيفة ( الأمر ) ووظيفة ( العدالة ) تطابق في مفهوماتنا الحديثة السلطتين التنفيذية والقضائية ، فإن وظيفة ( المداولة ) لا تطابق ( وظيفة التشريع ) التي نعرفها الآن ، وذلك أن ( المداولة ) تتسع عند أرسطو لأكثر من مجرد عمل القوانين ، بحيث يدخل فيها فضلاً عن ذلك كل ما يتصل بـ : السلم والحرب ، والمعاهدات ، وأحكام الإعدام ، والمصادرة ، والنفي ، وانتخاب الحكام ، والتدقيق على حساباتهم( ), وهو ما حمل " أرسطو " في خاتمته إلى اعتبار وظيفة ( المداولة ) بمثابة العنصر الأسمى في الدول( ) . والواقع أن دعوة " أرسطو " لم تكن دعوة إلى الفصل بين السلطات ، بل كانت دعوة إلى تقسيم وظائف الدولة حسب طبيعتها القانونية ، غير أنه يجب ألا يغرب عن البال أن الفصل بين السلطات لا يمكن أن يتحقق ما لم يكن هناك تقسيم لوظائف الدولة ، ومن ثم فإن دعوة أرسطو ـ وإن لم تتضمن الدعوة إلى مبدأ الفصل بين السلطات ـ إلا أنها مهدت السبيل له ، وبالتالي فإنها تكون قد أسهمت في نشأته وتكوينه.
2 ) مبدأ الفصل بين السلطات في الفكر السياسي الحديث :
أ ـ كرومويل Cromwell ومبدأ فصل السلطات :
إن التطور الحديث لمبدأ الفصل بين السلطات يرجع في الواقع إلى المدرسة الإنجليزية والتجربة الديمقراطية الإنجليزية ، حيث تطورت الملكية في انجلترة ـ نتيجة ثورة الأساقفة ـ من الملكية المطلقة إلى ملكية مقيدة تقوم على فصل السلطات ، ففي القرن السابع عشر صدر في انجلترة دستور كرومويل على أساس مبدأ فصل السلطات ، وكان هذا أول تطبيق عملي للمبدأ ، فقد أراد أوليفر كرومويل القضاء على الاستبداد الذي نشأ عن البرلمان الطويل ، فعمد إلى فصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية ، كما كان حريصاً على استقلال القضاء ؛ وعمل كرومويل في أنظمته المختلفة المتوالية على مراعاة ذلك ، على أنه بانقضاء عهده وعودة الملكية ، ألغي الدستور الجمهوري وعدل عن نظام الفصل بين السلطات ، فتلاشت أعمال هذا الرجل ، واندثرت بحيث لم يبقَ لها أي أثر لا في انجلترة ولا في البلاد الأجنبية( ) .
ب ـ جون لوك John Locke ومبدأ فصل السلطات ( 1632 ـ 1704 ) :
يعتبر جون لوك أول من كتب عن نظرية فصل السلطات في ظل النظام النيابي الذي تأسس في انجلترة عقب ثورة 1688, وتأثر " لوك " في نظريته هذه بالخلاف الذي كان قائماً بين الملوك من جانب والبرلمان الإنجليزي من جانب آخر ، فوضع نظريته بهذا الصدد على أساس أن كل نظام صحيح يجب أن يحكمه مبدأ الفصل بين السلطات( )؛ ووضح لوك آراءه في كتابه " رسالتان ( أطروحتان ) عن الحكومة " Two Treatises of Government ، وذلك في الأطروحة الثانية منه حول الحكومة المدنية Civil Government الذي نشر عام 1690 .
وتتلخص أفكار " جون لوك " بخصوص فصل السلطات في الآتي:
1 ) تقسيم السلطات العامة في الدولة : ذهب " لوك " في مؤلفه عن " الحكومة المدنية " إلى أن الفرد في حياة الفطرة السابقة على إبرام العقد الاجتماعيSocial Contract المنشيء للجماعة السياسية, كان يملك سلطتين : الأولى ـ هي سلطة اتخاذ الإجراءات التي يراها كفيلة بالمحافظة على نفسه وعلى الآخرين ضمن ما يرخص به قانون الطبيعة Law Of Nature . والثانية ـ هي سلطة توقيع العقاب على الجرائم التي تشكل خرقاً أو انتهاكاً لذلك القانون . وحين انتقل الفرد من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة ، تنازل عن هاتين السلطتين للجماعة عند إنشائها( ), وهكذا نجد أن الجماعة السياسية Political Community بوصفها وارثة للأفراد الطبيعيين ، تملك سلطتين هما : 1 ) السلطة التشريعية Legislative Power ، وبموجبها تتولى وضع القواعد اللازمة لحفظ الجماعة وأفرادها 2 ) السلطة التنفيذية Executive Power ، وتقوم بموجبها بتنفيذ القوانين الوضعية في الداخل.
ولما كان على الجماعة أن تظهر كجسم واحد أمام بقية البشر الذين مازالوا في حالة الفطرة The State of Nature كان لابد من وجود سلطة خاصة تمثل الدولة في علاقاتها مع الخارج ، وهذا ما دعا لوك إلى القول بوجود سلطة ثالثة أسماها " السلطة الاتحادية أو الفيدرالية " Federative Power ، ومهمتها إعلان حالتي الحرب والسلم وعقد المعاهدات والتحالفات ومباشرة العلاقات الخارجية.
ومع أن " لوك " سلم بفصل السلطة التنفيذية عن السلطة الاتحادية ، إلا أنه رأى أن اتحادهما طبيعي ، إذ " مادام أن كلاً منهما يحتاج في ممارسته لاستخدام سلطان الجماعة ، فإنه يغدو من غير الممكن عملاً وضع سلطان الدولة في أيدٍ مختلفة وغير خاضعة إما للسلطة التنفيذية وإما للسلطة الاتحادية ، لأن معنى ذلك أن السلطة العامة تستخدمها إرادات مختلفة ، وذلك يؤدي إلى التسبب في الفوضى والخراب ". غير أن ذلك لا يعني أن " لوك " يرى أن السلطتين التنفيذية والاتحادية مظهران مختلفان لسلطة واحدة ، إنهما في نظره سلطتان متميزتان ، حيث تتخصص كل منهما في عمل محدد لا يختلط بمجال عمل الأخرى ، فالسلطة التنفيذية تتخصص في الإشراف على تنفيذ القوانين المدنية أو المحلية Municipal Laws في مواجهة الرعايا ، بينما تتخصص السلطة الاتحادية في حماية أمن الدولة الخارجي ، والعمل على تحقق مصالحها العامة في الخارج.
ويرجع السبب في اعتبار " لوك " السلطة الاتحادية منفصلة عن السلطة التنفيذية مع وجوب اتحادها في الوقت نفسه ، إلى ما كان عليه الحال في النظام الإنجليزي ، إذ كانت السلطة الاتحادية من اختصاص الملك الذي هو كذلك رئيس السلطة التنفيذية.
وتجدر الإشارة إلى أن تقسيم " لوك " للسلطات العامة لا يتضمن أية إشارة إلى السلطة القضائية, وهو ما يعني أن " لوك " لم يكن يراها سلطة مستقلة ومتميزة عن السلطات الأخرى . والواقع أن لوك فيما ذهب إليه في هذا الصدد كان واقعاً تحت تأثير الوضع السائد في انجلترة في زمانه, فقد كان القضاة قبل ثورة 1688 خاضعين للتاج خضوعاً تاماً ، يتلقون منه الأوامر, وتهددهم باستمرار سلطته في عزلهم ، أما بعد هذه الثورة ، فقد تحرر القضاة من التبعية للتاج ليقعوا في قبضة البرلمان, الذي نجح في ترويض التاج, واستلم زمام السلطة السياسية ، وهو ما أفقدهم الاستقلال ، وحكم عليهم بالخضوع الكامل للأغلبية الحزبية المسيطرة في البرلمان.
2 ) وجوب الفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية : ذهب " لوك " بخصوص العلاقة بين السلطات المختلفة التي تباشر وظائف الدولة إلى ضرورة الفصل بين السلطة التي تباشر وظيفة التشريع والسلطة التي تباشر وظيفة التنفيذ, ونبّه إلى خطورة جمع هاتين الوظيفتين في يد هيئة واحدة ؛ و برّر " لوك " وجهة نظره باعتبارين ، أحدهما عملي والآخر نفساني وفني :
الاعتبار العملي : ويتمثل في أن عمل السلطة التنفيذية يتطلب بقاءها بصفة دائمة للسهر على تنفيذ القوانين وإجبار الأفراد على احترامها ، أما السلطة التشريعية فهي على العكس من ذلك ليست في حاجة إلى الانعقاد والاجتماع بصفة دائمة ، ذلك أن مهمتها مقصورة على سن القوانين ( أي وضع القواعد اللازمة لحفظ الجماعة وأفرادها ) ، ومثل هذه المهمة يمكن أداؤها في وقت قصير أو على فترات متقطعة ، فلا يستلزم الأمر أن تكون السلطة التشريعية في حالة انعقاد دائم ، إذ إن الدولة لا تحتاج إلى قوانين كل يوم ، ولكنها في حاجة إلى سلطة دائبة العمل تسهر على تنفيذ القوانين التي وضعتها السلطة التشريعية ، وإجبار الأفراد على احترامها.
الاعتبار النفساني والفني : ويتحصل في أن منح سلطة تشريع القوانين وسلطة تنفيذها لنفس الأشخاص ، من شأنه أن يؤدي إلى التحكم ، ويغري بالاستبداد ، وذلك لأن النفس البشرية ـ بسبب ضعفها أمام قوة الإغراء ـ تجنح إلى الهوى ، وتميل إلى حب السلطة والتعلق بها ، وفضلاً عن ذلك ، فإنه من الممكن لأولئك الأشخاص ـ الذين يركزون في أيديهم سلطتي التشريع والتنفيذ ـ أن يعفوا أنفسهم أو يتحللوا من الخضوع للقوانين ، سواء عند وضعها أو عند تنفيذها ، ويجعلوها متلائمة مع مصلحتهم الذاتية الخاصة ، وينتج عن ذلك ظهور مصلحة مختلفة ومتميزة عن مصلحة الجماعة ، ومخالفة لها وللغرض من وجود الحكومة( ).
وعلى ذلك ، يجب في كل دولة منظمة يكون الصالح العام Public Good هدفها ـ كما هو المفروض ـ وضع السلطة التشريعية في أيدي أشخاص مختلفة ، يكون لهم ـ عندما يجتمعون بشكل قانوني ـ حق عمل القوانين بمفردهم أو بالاشتراك مع غيرهم ، وعندما ينتهون من وضع هذه القوانين ، ينفضون ويخضعون هم أنفسهم لها ، وهذا ما يجعلهم يضعون القوانين بعناية ودقة ، بقصد خدمة الصالح العام .
وحاصل القول ، أن " جون لوك " في كتابه عن " الحكومة المدنية " استطاع أن يوضح فائدة تقسيم السلطات ، ولكنه لم يتوصل إلى تحرير نظرية واضحة المعالم كما فعل من بعده مونتسكيو ؛ ومع ذلك ، فإنه لا جدال في أن نظرية " لوك " في فصل السلطات هي الأساس الذي أقام عليه " مونتسكيو " نظريته الخاصة بهذا المبدأ ، والتي تضمنها كتابه المشهور " روح القوانين ", إلا أن مونتسكيو حوّر عناصر نظرية الفيلسوف الإنجليزي وأنشأ منها خلقاً جديداً ، أو على حد تعبير الفقيه اسمان Esmein أوجد من النطفة مخلوقاً كامل النمو تام التكوين( ).
ثانياً ـ نظرية مونتسكيو في الفصل بين السلطات :
تعتبر نظرية مونتسكيو في فصل السلطات مرحلة من تطور فكري طويل ، حيث قام هذا الفيلسوف بدراسة أفكار من سبقوه حول هذا المبدأ، مستفيداً من إقامته بانجلترة لمدة عامين، ومتأثراً بالنظم الإنجليزية المعمول بها حينذاك، إلا أنه تعدى حدود هذه النظم، ولم يتأثر بالواقع العملي للحكومات السائدة في عصره ، ووضع نظرية عامة مثالية مقرونة باسمه, وعرضها عرضاً واضحاً ورائعاً في كتابه " روح القوانين " الذي ظهر عام 1748 م ، ولا تزال الأفكار التي طرحها تمثل حجر الزاوية في دراسات القانون الدستوري ، بل يمكن القول أنها تعد أساساً لكل حكومة منظمة ، وعنواناً لكل دولة مثالية بغض النظر عن الزمان أو المكان الذي توجد فيه هذه الحكومة أو تلك الدولة ، ولذلك كان من حقه في الفكر السياسي أن تنسب إليه هذه النظرية وترتبط باسمه.
1 ) عرض النظرية :
عرض مونتسكيو نظريته في كتابه الشهير " روح القوانين " في الفصل السادس من الكتاب الحادي عشر منه ، وذلك تحت عنوان " دستور انجلترة " بادئاً القول بأنه : " يوجد في كل دولة ثلاثة أنواع من السلطة : وهي السلطة التشريعية ، والسلطة المنفذة للقانون العام ، والسلطة المنفذة للمسائل التي تعتمد على القانون المدني؛ فبموجب السلطة الأولى, يشرع الأمير أو الحاكم القوانين لمدة مؤقتة أو على سبيل الدوام ، كما له أن يعدل أو يلغي القوانين المعمول بها ، وبواسطة السلطة الثانية ، يقر السلم أو يعلن الحرب, ويرسل السفراء إلى الدول الأجنبية, ويستقبل سفراءها ، ويوطد الأمن في الداخل ، ويحتاط ضد كل اعتداء أو غزو من الخارج ، وأخيراً يستطيع الحاكم بموجب السلطة الثالثة أن يعاقب المجرمين, ويفصل في منازعات الأفراد, ويطلق على هذه السلطة الأخيرة " السلطة القضائية ", بينما تسمى الثانية ـ ببساطة ـ " السلطة التنفيذية للدولة ".
وبعد أن ميز " مونتسكيو " السلطات الثلاث المذكورة ، وفصّل المهام التي تتولاها كل سلطة ، رأى ضرورة فصلها ، ووجوب توزيعها على هيئات مستقل بعضها عن بعض ، وذلك لأن اجتماع هذه السلطات الثلاث وتركيزها في يد واحدة يؤدي إلى فساد السلطة واستبدادها ، وتجاوزها للحدود الدستورية والقانونية ، والإضرار بحقوق الأفراد وتعريض حرياتهم للخطر .
وفي هذا المعنى يقول مونتسكيو :« إذا اجتمعت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد شخص واحد ، أو تركزت في هيئة واحدة ، فلن تكون هناك حرية ، لأنه يخشى في هذه الحالة أن يقوم ذلك الشخص أو تلك الهيئة ( الحاكم نفسه أو مجلس الشيوخ ) بسن قوانين استبدادية جائرة Tyrannical Laws, وتنفيذها بطريقة ظالمة .
مرة أخرى ، لن تكون هناك حرية ، إذا لم تكن السلطة القضائية منفصلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ، لأنها إذا كانت متحدة أو مجتمعة مع السلطة التشريعية ، فإن حياة المواطن وحريته تصبحان عرضةً للتحكم والسيطرة الاستبدادية Arbitrary Control, لأن القاضي في مثل هذه الحالة سيكون هو مشرّع القانون ؛ وإذا كانت السلطة القضائية متحدة أو مجتمعة مع السلطة التنفيذية ، فإن القاضي قد يتصرف بعنف وقسوة Violence ويمارس الظلم والاضطهاد Oppression ». وباختصار, فإن كل شيء مهدد بالضياع عند مونتسكيو إذا ما اجتمعت السلطات الثلاث في قبضة شخص واحد أو هيئة واحدة, حتى ولو كانت قبضة الشعب ذاته, وعبَّر مونتسكيو عن ذلك بقوله « إن كل شيء سيضيع إذا مارس نفس الشخص أو نفس الهيئة ، سواء كانت مكونة من وجهاء البلاد ونبلائه أو من الشعب نفسه, هذه السلطات الثلاث : السلطة التي تسن القوانين, وتلك التي تعمل على تنفيذ القرارات العامة, والفصل في الجرائم والمنازعات الفردية ».
ويعطي " مونتسكيو " تعليلاً فلسفياً لهذه النتيجة التي توصل إليها ، يعتمد على أسس تاريخية وبشرية في آن واحد ، إذ يقول : « إن الحرية السياسية لا يمكن ضمانها إلا في الحكومات المعتدلة ، على أنها لا توجد دائماً في تلك الحكومات ، فهي لا تتحقق إلا عند عدم إساءة استعمال السلطة . فلقد أثبتت التجارب الأبدية أن كل إنسان يتمتع بسلطة يميل إلى إساءة استعمالها ، ويتمادى في استعمالها حتى يجد حدوداً توقفه . إنه ليس غريباً ـ من خلال هذه الحقيقة ـ أن نقول بأن الفضيلة نفسها في حاجة إلى حدود . ولكي نمنع أو نتفادى إساءة استعمال السلطة ، فإنه من الضروري ـ بطبيعة الأشياء ـ أن يكون النظام قائماً على أساس أن السلطة توقف أو تحد السلطة ».
ولكن لا يكفي لكي "توقف السلطة السلطة" أن يكون هناك فصل بينها ، أو أن يعهد ببعض من الاختصاصات إلى كل منها تباشره استقلالاً عن الأخرى ، وإنما يجب بالإضافة إلى ذلك ، أن تكون علاقاتها متكافئة ، أي أن يكون لكل سلطة من السلطات الثلاث ثقلاً ووزناً ، تستطيع بواسطته أو من خلاله أن تقاوم السلطات الأخرى .
والواقع أنه بغير ذلك لا تبدو أية فائدة من الأخذ بمبدأ فصل السلطات ، إذ ما الفائدة من فصل الوظيفة التنفيذية عن الوظيفة التشريعية إذا لم يتمكن صاحب التنفيذ أن يعمل إلا بإرشاد صاحب التشريع ؟ وما الفائدة من فصل القضاء إذا كان رجال السلطة القضائية يتبعون السلطة التنفيذية ؟ ويبدو من ذلك أن نظرية مونتسكيو لا ترمي إلى توزيع الوظائف من الناحية القانونية فقط ، بل إلى استقلال كل هيئة في ذاتها كذلك ، وقد عبر مونتسكيو عن ذلك بقوله : " يتحتم لإيجاد حكومة معتدلة تنسيق السلطات ، وتركها تعمل دون اندفاع ، أو بعبارة أخرى ، إعطاء كل منها ثقلاً تستطيع أن تقاوم به الأخرى ... " . ونخلص من هذا العرض لوجهات نظر " مونتسكيو " بخصوص مبدأ فصل السلطات إلى النقاط الجوهرية التالية : أ ـ قسّم " مونتسكيو " السلطات العامة في الدولة إلى ثلاث سلطات أساسية هي : التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية ، وبيّن المهام التي تضطلع بها كل سلطة. ب ـ أكد " مونتسكيو " أن توزيع السلطات وفصلها بهذه الصورة أمر ضروري ، فليس أخطر على الحرية ، وأقرب إلى الطغيان والاستبداد من جمع السلطات الثلاث في يد واحدة ، ولو كانت هذه اليد هي قبضة الشعب نفسه ، أو مجلس منبثق عنه ، فطبيعة النفس البشرية عبر القرون أثبتت أن الاستبداد قرين الاستئثار بالسلطة . ج ـ لم يتوقف " مونتسكيو " عند حد الفصل بين السلطات العامة في الدولة ، وإنما قال بضرورة رقابة السلطة ، أي أن تقوم السلطة بالحد من السلطة ، ومن هنا يمكن القول بأن" مونتسكيو " كان يعلن مبدأ من مبادىء فن السياسة ، وليس مبدأ من مبادىء القانون ، ذلك أنه لم يقترح تنظيماً للدولة ، وإنما قال بوسيلة تجنب السلطة صفة الكلية أو الشمولية. د ـ أكد مونتسكيو على حاجة السلطات العامة وبخاصة التشريعية والتنفيذية منها إلى تبادل الرقابة فيما بينها ، بحيث يكون للسلطة التشريعية إمكانية قيد السلطة التنفيذية والحد من غلوها وكبح جماحها, وأن يكون للسلطة التنفيذية ذات الإمكانية تجاه السلطة التشريعية ، فقد أوضح مونتسكيو مقدماً أنه لا فائدة من فكرة القيد الذاتي للسلطة ، ولذلك ينبغي أن يكون هذا القيد خارجياً عنها.
2 ) أثر نظرية مونتسكيو :
كان لأفكار " مونتسكيو " أثرها الواضح على رجال الثورة في فرنسا وأمريكيا ، فذهبوا إلى أن فصل السلطات هو شرط الحكومة الدستورية الحرة ، وأعلنت الثورة الفرنسية ذلك صراحة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 أغسطس / آب عام 1789 ، فنصت المادة السادسة عشر منه على أن : " أي مجتمع لا تكون فيه الحقوق مكفولة ، أو فصل السلطات محدداً ، هو مجتمع ليس له دستور على الإطلاق ".
غير أن الثوار في فرنسا ، قد انتهوا في تفسير فصل السلطات إلى أبعد مما كان يستهدفه مونتسكيو ، فقد كانت الفكرة الأساسية التي تدور حولها نظرية مونتسكيو أن تركيز السلطات Concentration of Powers في قبضة شخص واحد أو هيئة واحدة يعرّض حريات الأفراد العامة إلى الضياع ، وأنه تأسيساً على ذلك ، فإن فصل السلطات لا يعدو أن يكون قاعدة سياسية تفيد توزيع سلطات الدولة على هيئات عامة مستقلة ، يمكن لكل منها أن توقف الأخرى؛ وهو ما يعني أن مونتسكيو ما كان يتصور فصل السلطات فصلاً مطلقاً أو نهائياً يؤدي إلى استقلال الهيئات العامة استقلالاً كلياً ينتهي بها إلى نوع من العزلة ، وهو ما لم يفهمه الثوار في فرنسا ، فقد فسروا المبدأ بما يؤدي إلى الفصل المطلق أو التام ، بحيث تنتفي كل علاقة أو تداخل بين الهيئات القائمة على مباشرة هذه السلطات .
الفرع الثاني مدلول مبدأ الفصل بين السلطات
نشأ خلاف بين فقهاء القانون العام حول مفهوم أو مدلول مبدأ الفصل بين السلطات ، فالبعض فهمه على أنه يعني الفصل المطلق بين السلطات ، وأن هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق غاية المبدأ الأساسية في منع التعسف والاستبداد بالسلطة . وهذا التفسير ـ رغم خطئه ـ ذاع وانتشر زماناً غير قصير ، وساد وطبق في غير قليل من الدساتير ، إلا أن الغالبية العظمى من الفقهاء قد فهمت المبدأ على نحو آخر ، وهو أنه يعني الفصل المرن أو النسبي ، أي فصلاً مع التوازن والتعاون بين السلطات ، وهذا هو التفسير الصحيح والسليم لذلك المبدأ ، والذي يأخذ به اليوم أساتذة فقه القانون العام .
وإذا كان الأمر كذلك ، فما هو مدلول كل من هذين التفسيرين ؟ وما هي الحجج التي ساقها كل منهما لتبريره ؟ ومن ناحية أخرى ، إذا كان بعض الفقهاء المعاصرين يرون أن " مونتسكيو " لم ينادِ بالفصل المطلق ، بل نادى بالفصل النسبي ، فما هي الأدلة التي يسوقها أنصار هذا الرأي لتبريره ؟ وما هو المدلول الصحيح لأفكار مونتسكيو حول هذا الموضوع ؟
وبناء عليه ستكون دراستنا لمدلول مبدأ الفصل بين السلطات مقسمة على النحو التالي :
أولاً ـ التفسير التقليدي لمبدأ الفصل بين السلطات ( فكرة الفصل المطلق ) :
1 ) مضمون فكرة الفصل المطلق :
سادت هذه الفكرة في الحقبة التي أعقبت الثورة الفرنسية French Revolution مباشرة, فقد فهم رجال تلك الثورة ومن عاصرهم من الفقهاء مبدأ الفصل بين السلطات على أنه فصل جامد ومطلق, أي أن كل سلطة من سلطات الدولة الثلاث يجب أن تباشر اختصاصاتها استقلالاً, ولا تتدخل في اختصاصات السلطات الأخرى . واستند رجال الثور الفرنسية في تفسيرهم إلى أن الأمة صاحبة السيادة تملك ثلاث سلطات ، وكل سلطة تمثل جزءاً منفصلاً ومستقلاً من أجزاء السيادة التي تملكها ، وعندما تختار الأمة ممثليها فإنها تفوض كلاً من هذه السلطات إلى هيئة عامة مستقلة ومتخصصة ، فتفوض إحدى هذه الهيئات الأمة في ممارسة السلطة التشريعية ، والأخرى في ممارسة السلطة التنفيذية ، والثالثة في ممارسة السلطة القضائية ؛ وهذه الوظائف الثلاث ليست مجرد اختصاصات مختلفة تصدر عن سلطة واحدة ، ولكنها سلطات مستقلة تعبر كل منها عن جانب من جوانب السيادة ، وتمارس نشاطاً متميزاً ومستقلاً .
ويترتب على ذلك ، قيام فصل مطلق بين هذه السلطات الثلاث ، وحصر كل سلطة منها في نوع معين من النشاط ، وأمام ذلك ، ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى القول بأن مبدأ الفصل بين السلطات يقوم على قاعدتين تكمل إحداهما الأخرى : فهو يقوم أولاً على قاعدة التخصص الوظيفي fonctionnelle La règle de la spécialisation ، فتتعدد الهيئات العامة بقدر تعدد سلطات الدولة ، وتختص كل منها بأعمال سلطة معينة من هذه السلطات ؛ ويقوم ثانياً على قاعدة الاستقلال العضوي La règle de l’indépendance organique ، فتعد كل هيئة من هذه الهيئات مساوية لغيرها ومستقلة عنها, ولا يجوز أن تتدخل إحداها في أعمال الأخرى.
2 ) تطبيقات فكرة الفصل المطلق :
أخذ أول دساتير الثورة الفرنسية الصادر في 3 سبتمبر سنة 1791 بهذا التفسير " الخاطىء " لمبدأ الفصل بين السلطات ، حيث جعل كل سلطة من سلطات الدولة في عزلة تامة عن بقية السلطات( ), وهو ما سار عليه أيضاً دستور السنة الثالثة الصادر في عام 1795 ، ويتبين ذلك ( أولاً ) من كون الوزراء إنما يجري تعيينهم وعزلهم بمعرفة رئيس السلطة التنفيذية وحده ، و ( ثانياً ) من أن الوزراء يجب أن يختاروا من غير أعضاء البرلمان ، و ( ثالثاً ) ليس للسلطة التنفيذية أي سلطان على السلطة التشريعية ، فليس لها أي تأثير على نظام عمل المجلسين ، فالمجلسين يمكنهما أن يجتمعا دون حاجة إلى سابق دعوة من السلطة التنفيذية ، وليس لهذه السلطة الحق في حل أي مجلس من المجلسين ، وفضلاً عن ذلك ، فإن السلطة التنفيذية لا تقوم بأي دور فيما يتعلق بالوظيفة التشريعية ، فليس لها مثلاً حق اقتراح القوانين ، وإنما كل ما لها هو مجرد توجيه نظر السلطة التشريعية إلى العناية بإصدار تشريع في مسألة معينة ، وكذلك ليس للسلطة التشريعية أي سلطان على السلطة التنفيذية.
وقد كان الهدف من تلك العزلة أو الفصل المطلق بين السلطات هو منع الاستبداد وحماية الحرية, غير أنه سرعان ما تبين أن ذلك الفصل المطلق قد أدى إلى الاستبداد والطغيان وقمع الحريات ، وإقامة أبشع صور الإرهاب ، وذلك لأن انفراد كل هيئة من الهيئات الثلاث بسلطة من السلطات دون أن تشاركها فيها هيئة أخرى ، ودون أن تكون خاضعة لرقابة أو تدخل غيرها من الهيئات ، يفتح المجال أمام تلك الهيئة للاستبداد والتحكم ، لأنها لن تجد أمامها هيئة أخرى تقف في طريقها أو تحول بينها وبين الطغيان ، ومن أجل ذلك ، فقد عدلت الدساتير الفرنسية عن فكرة الفصل المطلق بين السلطات ، وانتهجت التفسير الحقيقي للأفكار التي نادى بها دعاة مبدأ الفصل " أمثال جون لوك و مونتسكيو " ، فأخذت بالفصل النسبي المرن الذي يسمح بوجود قدر من التعاون بين الهيئات العامة المختلفة ، دون أن يؤدي ذلك إلى حد إلغاء الفواصل بينها أو تمكين إحدى الهيئات من السيطرة على باقي الهيئات وإخضاعها لإرادتها.
ثانياً ـ التفسير الحديث لمبدأ الفصل بين السلطات ( فكرة الفصل المرن ) :
لم تعمر فكرة الفصل المطلق بين السلطات طويلاً ، وذلك لتعارضها مع وحدة السلطة في الدولة ، فالسلطات العامة في الدولة هي في الحقيقة جملة اختصاصات ترتد جميعاً إلى أصل واحد ، ومن ثم لا يمكن ممارستها بطريقة استقلالية كلاً منها عن الأخرى ، بل يلزم أن تقوم بين الهيئات التي تمارسها علاقات تعاون و تداخل ، تنسق بينها ، وتوجه نشاطها جميعاً إلى الهدف المشترك ؛ لذلك كانت النظرية التي سادت إبان الثورة الفرنسية ، والتي نادت بالفصل المطلق بين السلطات ، نظرية قصيرة العمر ، سرعان ما هجرت واستعيض عنها بمبدأ الفصل النسبي أو المرن بين السلطات.
1 ) مضمون فكرة الفصل المرن : تقوم فكرة الفصل النسبي أو المرن بين السلطات العامة على أساس أن " سلطة الدولة تمثل وحدة لا تتجزأ " The state power forms a unity ، and is indivisible ، غير أن للدولة وظائف ثلاث هي الوظيفة التشريعية والوظيفة التنفيذية والوظيفة القضائية، وهذه الوظائف الثلاث يجب أن توزع على هيئات ثلاث ، بحيث تكون هناك هيئة تختص بممارسة التشريع، وهيئة تختص بممارسة أمور التنفيذ، وهيئة تباشر الوظيفة القضائية؛ غير أن تلك الهيئات عندما تباشر تلك الوظائف لا تباشرها باعتبارها سلطات منفصلة يمثل كل منها جانباً من جوانب السيادة ، بل باعتبارها مجموعة من الاختصاصات تصدر من سلطة موحدة هي سلطة الدولة ، وهذه الاختصاصات لا يمكن الفصل بينها فصلاً مطلقاً لسببين :
السبب الأول : أن هذه الاختصاصات جميعاً إنما تمارس لأجل تحقيق الصالح العام ، وبناء عليه فإنه يجب أن يقوم تعاون وتنسيق بين الهيئات التي تباشرها, وذلك لأجل تحقيق تلك الغاية . والسبب الثاني : مفاده أن هذه الاختصاصات يتداخل بعضها مع البعض الآخر لدرجة لا تسمح بالفصل بينها فصلاً مطلقاً ، وبناء عليه يجب أن تكون هناك درجة معينة من المشاركة في ممارستها بين الهيئات العامة المختلفة ، شريطة ألا تؤدي تلك المشاركة إلى إلغاء الفواصل القائمة بينها ، أو تركيز السلطة في يد واحدةٍ منها .
2 ) تطبيقات فكرة الفصل المرن : عدلت أنظمة الدول الليبرالية عن فكرة الفصل المطلق بين السلطات كونها تمثل نظام خيالي لا يمكن أن يتم له التطبيق في العمل ، وانتهجت التفسير الصحيح للمبدأ ، والمتمثل في فكرة الفصل النسبي المرن ، فهذه الفكرة هي التي أمكن تطبيقها على صعيد الواقع ، كما أنها هي الفكرة السائدة في الفقه المعاصر ، وعلى أساسها ـ كما سنرى في المطلب الثاني ـ يجري تصنيف الأنظمة النيابية في الدول الديمقراطية الليبرالية .
ثالثاً ـ المدلول الصحيح لأفكار مونتسكيو حول مبدأ الفصل بين السلطات :
ذهب معظم فقهاء القانون العام إلى أن المفهوم الصحيح لمبدأ فصل السلطات ـ كما تصوره مونتسكيو ـ هو الفصل المتوازن بين السلطات العامة الثلاث في الدولة ، مع قيام قدر من التعاون فيما بينها ، لتنفيذ وظائفها في توافق وانسجام ، ووجود رقابة متبادلة بينها لضمان وقوف كل سلطة عند حدودها ، دون أن تجاوزها أو تعتدي على سلطة أخرى.
وإذا كان الثوار في فرنسا ، ومن عاصرهم من الفقهاء ، قد انتهوا في تفسير فصل السلطات على أنه يعني الفصل المطلق أو التام ، فإن هذا التفسير خاطىء ، ويتجاوز حدود نظرية مونتسكيو ، وذلك لأن هذا الأخير لم يخطر على ذهنه مطلقاً أن يقيم فصلاً كاملاً بين الهيئات الحاكمة ، وإنما أقام بينها نوعاً من الاعتدال والانسجام في الحركة ( ), وهذا ما أشار إليه مونتسكيو نفسه في معرض حديثه عن العلاقة بين البرلمان والحكومة في النظام الإنجليزي بقوله :« إن هذه السلطات الثلاث ستنتج حالة من الرقاد والكسل والتراخي ، ولكن نظراً لطبيعة الأشياء ، فإن عليها أن تتحرك ، وستجد نفسها مضطرة للحركة والتعاون بانسجام وتوافق »؛ ولا شك أن الإشارة إلى تنسيق الجهود والتعاون يعني أن الفصل بين السلطات ليس جامداً أو مطلقاً ، وإنما هو فصل مرن.
وهذا الرأي يحظى ـ كما قلنا في البداية ـ بتأييد عدد كبير من الفقهاء المعاصرين ، نظراً للحجج القوية التي ساقها أنصاره لتبريره ، ويمكن إجمال تلك الحجج في الآتي :
1 ـ إن الغاية الأساسية التي تغياها مونتسكيو من فصل السلطات هي تفادي إساءة استخدام السلطة وحماية حقوق المواطنين وحرياتهم ، بيد أنه يكفي لتحقيق هذه الغاية توزيع السلطات بين هيئات متعددة تستطيع كل منها أن تمنع الأخرى من الاستبداد بالسلطة ، بل إن هذه الغاية المنشودة لا تتحقق على الوجه الأكمل في نظام يقوم على الفصل المطلق بين السلطات, فالفصل المطلق يجعل من كل هيئة سلطة منعزلة تماماً Utterly Isolated عن باقي السلطات ، وتمارس اختصاصاتها بطريقة استقلالية قد تمكنها من إساءة استعمالها لأن السلطة المستقلة لا تجد أمامها عائقاً يمنعها من الاستبداد ، فالسلطات الأخرى لا تستطيع أن تتدخل في ممارستها لاختصاصاتها ، وبالتالي لا تستطيع أن تحول بينها وبين ممارسة الطغيان ، ومن ثم ، بدلاً من أن يكون هذا الفصل المطلق ضمانة ضد التحكم والاستبداد ، يهيئ الفرصة للتحكم والاستبداد.
ولعل ما وقع من استبداد وقمع للحريات ، وممارسة أبشع صور الإرهاب في ظل دستور 1791 الفرنسي ، ودستور السنة الثالثة 1795 من قيام الثورة الفرنسية كذلك ، أوضح دليل على أن الفصل المطلق لا يحقق حريات الأفراد ولا يحميهم من التحكم والاستبداد .
2 ـ كما أن مونتسكيو درس مبدأ فصل السلطات تحت عنوان دستور إنجلترة وذلك في الفصل السادس من الكتاب الحادي عشر من مؤلفه "روح القوانين"؛ ومن الثابت أن إنجلترة لم تعرف في أية لحظة من لحظات تاريخها السياسي فكرة الفصل المطلق بين السلطات . ومعلوم أيضاً أن مونتسكيو كان من المعجبين جداً بالدستور الإنجليزي ، والمحبذين للأسس التي قام عليها. 3 ـ وفضلاً عن ذلك ، فإذا ما رجعنا إلى الفصل السادس من الكتاب الحادي عشر من مؤلف مونتسكيو " روح القوانين " لوجدنا كثيراً من الفقرات يعترف فيها مونتسكيو للسلطة التنفيذية بحق المشاركة أو التدخل في بعض أعمال السلطة التشريعية ، فيعترف للسلطة الأولى بحق دعوة البرلمان إلى الانعقاد ، والحق في فض دورات انعقاده ، والاعتراض على القوانين ، وفي مقابل ذلك يقر بحق الهيئة التشريعية في مراقبة أعمال الهيئة التنفيذية والإشراف على كيفية تطبيقها للقوانين ؛ مما يعني بالتالي أن " مونتسكيو " لم يذهب إلى حد القول بالفصل المطلق بين السلطات بل قدّر دائماً وجود علاقة مستمرة بينها ، حيث يقول في ذلك : " إذا لم يكن للسلطة التنفيذية الحق في أن تقيد أو تكبح تجاوزات الهيئة التشريعية ، فإن هذه الأخيرة ستغدو مستبدة ، لأنه من الممكن أن تدعي لنفسها الحق في أي شيء ترغب فيه ، وبذلك ستدمر باقي السلطات الأخرى ؛ لذا فإن السلطة التنفيذية يجب أن يكون لها دور في مجال التشريع عن طريق سلطتها في المنع ( أي حق الاعتراض التوقيفي ) ، وبغير هذه السلطة لا تلبث أن تُسلب منها امتيازاتها .. وإذا لم يكن لدى السلطة التشريعية ـ في دولة حرة ـ الحق في أن توقف السلطة التنفيذية ، فإن لها الحق في أن يكون لديها الوسائل والإمكانيات لفحص طريقة تنفيذ القوانين التي تضعها " .
الفرع الثالث مبررات مبدأ فصل السلطات والانتقادات الموجهة إليه
تمهيد وتقسيم :
عرف مبدأ الفصل بين السلطات مجداً لم يلقه أي مبدأ آخر ، حيث وجد هذا المبدأ حظوة كبيرة لدى فقهاء القانون العام ، فأخذوا يتحمسون له ويدافعون عنه ، وذلك من خلال إبراز مزاياه وشرح مبررات الأخذ به وتطبيقه ؛ ولكنه شأنه شأن غيره من المبادىء السياسية والقانونية لم يسلم من النقد والهجوم عليه ، فقد عاداه بعض الفلاسفة والفقهاء ، ووجهوا إليه سهام نقدهم ، وشكّكوا في أصالته وفي جدواه .
وبناء عليه ، سنتناول بالدراسة مبررات مبدأ فصل السلطات ، ثم بعد ذلك نتناول الانتقادات الموجهة إلى هذا المبدأ ، وذلك وفقاً لما يلي :
أولاً ـ مبررات مبدأ الفصل بين السلطات :
أيد معظم رجال الفقه مبدأ الفصل بين السلطات ودافعوا عنه بحرارة ، حيث قام هؤلاء بتعزيز دفاع مونتسكيو المؤسَّس على أنه ضرورة لمنع الاستبداد وضمان الحقوق والحريات وسيادة القانون ، فضلاً عن أنه يحقق للهيئات المنفصلة أسباب التخصص والخبرة والإجادة .
وعلى ذلك ، فإن المبررات التي أدت إلى الأخذ بهذا المبدأ وتطبيقه تتلخص فيما يلي:
1 ) منع الاستبداد وصيانة الحريات :
بيّنا من قبل أن الغاية الأساسية التي تغياها مونتسكيو من فصل السلطات هي تفادي إساءة استخدام السلطة ، وحماية حقوق المواطنين وحرياتهم( ), وبمعنى آخر ، فإن مونتسكيو قد نادى بمبدأ فصل السلطات كوسيلة لتفتيت السلطة ، ومنع تركيزها في يد واحدة على نحوٍ يهدد حريات الأفراد ويعرض حقوقهم للخطر( ). وقد عبر " ماديسون " عن هذا الفهم بوضوح في كتاب " الفدراليست " حيث يقول : " إن تَجَمّع ( تَكَدّس ) السلطات كلها ، التشريعية والتنفيذية والقضائية في يد واحدة ، سواء كانت تلك اليد هي يد حاكم فرد أو مجموعة من الحكام ، وسواء وصل أولئك الحكام إلى مناصبهم بالوراثة أو الانتخابات أو بفرض أنفسهم على المجموع, هذا التجمع الخطير هو أخص خصائص الاستبداد ، بل هو الاستبداد بعينه ".
وهذه الحقيقة غير خافية على أحد ، فطبيعة النفس البشرية أثبتت عبر القرون ، ومن خلال التجارب المستمرة ، أنها تجنح إلى الاستبداد إذا ما استأثرت بالسلطة ، وتنزع إلى إساءة استعمالها ؛ وقد عبر عن ذلك اللورد ]]آكتون]] Lord Acton (1834–1902)أحد كبار الساسة والمؤرخين البريطانيين السالفين بقوله : « إن كل سلطـة مفسدة ، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة »( ). وإذا كان الجميع متفق على أن السلطة ذات طبيعة عدوانية جشعة Power is of an encroaching nature ، وأنه يتوجب بالتالي تقييدها كيلا تتجاوز الحدود المقررة لها ، فإن الطريقة المثلى لمجابهة هذا الخطر تنحصر في توزيع السلطات ، حتى توقف كل سلطة عند حدها بواسطة غيرها بحيث لا تستطيع واحدة أن تسيء استعمال سلطتها أو تستبد بالسلطة.
2 ) تأكيد مبدأ المشروعية في الدولة :
يعتبر مبدأ الفصل بين السلطات من الضمانات المهمة التي تكفل قيام دولة القانون Lawful State ، فهو وسيلة فعالة لكفالة احترام القوانين وتطبيقها تطبيقاً عـادلاً وسليماً( )؛ وقد أوضح مونتسكيو الصلة بين الحرية الواردة في الحجة السابقة ، وبين صفة الشرعية Legality في الدولة ، وذلك على أساس أن وجود هذه مرهون بصيانة تلك . وبيان ذلك ، أنه إذا جُمع التشريع والتنفيذ بيد واحدة زالت عن القانون صفته الأساسية, وهي كونه قواعد عامة مجردة توضع للمستقبل دونما نظر إلى الحالات الخاصة التي قد تؤثر في حيادها وعموميتها ، فتجنح بها إلى الجور أو المحاباة ؛ هذا الصفة في القانون لا تتحقق إن كان المنفّذ في نفس الوقت مشرّعاً, إذ يستطيع أن يعدّل القانون في لحظة تنفيذه على الحالات الفردية التي يحوطها الغرض, ويخشى بصددها الجور أو المحاباة ، وبهذا تنتفي عن القانون عموميته وحياده, وتنتفي عن الدولة تبعاً لذلك صفة حكم القانون بمعناه الصحيح ، ليسودها حكم الجور والأهواء ، فيضع المشرع قوانين جائرة ، وينفذها هو نفسه ـ باعتباره سلطة تنفيذية ـ تنفيذاً جائراً كذلك( ).
وهذا ما عبر عنه مونتسكيو بقوله : « إذا اجتمعت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية في يد شخص واحد ، أو تركزت في هيئة واحدة ، فلن تكون هناك حرية ، لأنه يخشى في هذه الحالة أن يقوم ذلك الشخص أو تلك الهيئة ( الحاكم نفسه أو مجلس الشيوخ ) بسن قوانين استبدادية جائرة ، وتنفيذها بطريقة ظالمة »( ) . وينطبق هذا القول تماماً على حالة الجمع بين سلطتي التشريع والقضاء ، أو الجمع بين التنفيذ والقضاء ، لأن من شأن هذا الجمع أن